فصل: تفسير الآيات (35- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (35- 40):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين أنهم كذبوه وعادوه، وأشار بآية الحشر إلى جهنم إلى أنه لا يهلكهم بعامة، عطف على عامل {لنثبت} تسلية له وتخويفًا لهم قوله: {ولقد آتينا} أي بما لنا من العظمة {موسى الكتاب} كما أتيناك، بينا فيه الشرائع والسنن والأحكام، وجعلناه هدى ورحمة، وأنزلناه إليه منجمًا في نحو عشرين سنة يقال: إنها ثمان عشرة كما أنزلنا إليك هذا القرآن في نيف وعشرين سنة، كما بينت ذلك في آخر سورة النساء وغيرها، على أن أحدًا ممن طالع التوراة لا يقدر على إنكار ذلك، فإنه بيّن من نصوصها.
وزاد في التسلية بذكر الوزير، لأن الرد للاثنين أبعد، وفيه إشارة إلى أنه لا ينفع في إيمانهم إرسال ملك كما اقترحوا ليكون معه نذيرًا، فقال: {وجعلنا} بما لنا من العظمة {معه أخاه} ثم بينه بقوله: {هارون} وبين محط الجعل بقوله: {وزيرًا} أي معينًا في كل أمر بعثناه به، وهو مع ذلك نبي، ولا تنافي بين الوزارة والنبوة.
ولما كانت الواو لا ترتب، فلم يلزم من هذا أن يكون هذا الجعل بعد إنزال الكتاب كما هو الواقع، رتب عليه قوله: {فقلنا} أي بعد جعلنا له وزيرًا.
ولما كان المقصود هنا من القصة التسلية والتخويف، ذكر حاشيتها أولها وآخرها، وهما إلزام الحجة والتدمير، فقال: {اذهبا إلى القوم} أي الذين فيهم قوة وقدرة على ما يعانونه وهم القبط {الذين كذبوا بآياتنا} أي المرئية والمسموعة من الأنبياء الماضين قبل إتيانكما في علم الشهادة، والمرئية والمسموعة منكما بعد إتيانكما في علمنا.
فذهبا إليهم فكذبوهما فيما أرياهم وأخبراهم به من الآيات، لما طبعناهم عليه من الطبع المهيىء لذلك.
ولما كان السياق للإنذار بالفرقان، طوي أمرهم إلا في عذابهم فقال: {فدمرناهم} أي لذلك {تدميرًا} بإغراقهم أجمعين عل يد موسى عليه السلام في البحر، لم نبق منهم أحدًا مع ما أصبناهم به قبل ذلك من المصائب، مع اجتهاد موسى عليه السلام في إحيائهم بالإيمان، الموجب لإبقائهم في الدارين، عكس ما فعلناه بموسى عليه السلام من إنجائه من الهلاك بإلقائه في البحر، وإبقائه بمن اجتهد في إعدامه، وجعلنا لكل منهما حظًا من بحره {هذا ملح أجاج} هو غطاء جهنم، {وهذا عذب فرات} [الفرقان: 53] عنصره من الجنة، فليحذر هؤلاء الذين تدعوهم من مثل ذلك إن فعلوا مثل فعل أولئك.
ولما هدد المكذبين، بإهلاك الأولين، الذين كانوا أقوى منهم وأكثر، وقدم قصة موسى عليه السلام لمناسبة الكتاب في نفسه أولًا؛ وفي تنجيمه ثانيًا، أتبعه أول الأمم، لأنهم أول، ولما في عذابهم من الهول، ولمناسبة ما بينه وبين عذاب القبط، فقال: {وقوم} أي ودمرنا قوم {نوح لما كذبوا الرسل} بتكذيبهم نوحًا؛ لأن من كذب واحدًا من الأنبياء بالفعل فقد كذب الكل بالقوة، لأن المعجزات هي البرهان على صدقهم، وهي متساوية الأقدام في كونها خوارق، لا يقدر على معارضتها، فالتكذيب بشيء منها تكذيب بالجميع لأنه لا فرق، ولأنهم كذبوا من مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما سمعوه من أخبارهم، ولأنهم عللوا تكذيبهم بأنه من البشر فلزمهم تكذيب كل رسول من البشر.
ولما كان كأنه قيل: بأيّ شيء دمروا؟ قال: {أغرقناهم} كما أغرقنا آل فرعون بأعظم مما أغرقناهم {وجعلناهم} أي قوم نوح في ذلك {للناس آية} أي علامة على قدرتنا على ما نريد من إحداث الماء وغيره وإعدامه والتصرف في ذلك بكل ما نشاء، وإنجاء من نريد بما أهلكنا به عدوه {وأعتدنا} أي هيأنا تهيئة قريبة جدًا وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير؛ وكان الأصل: لهم، ولكنه أظهر تعميمًا وتعليقًا للحكم بالوصف فقال: {للظالمين} أي كلهم في أيّ زمان كانوا، لأجل ظلمهم بوضعهم الأشياء في غير مواضعها {عذابًا أليمًا} لاسيما في الآخرة.
ولما ذكر آخر الأمم المهلكة بعامة وأولها، وكان إهلاكهما بالماء، ذكر من بينهما ممن أهلك بغير ذلك، إظهارًا للقدرة والاختيار، وطوى خبرهم بغير العذاب لأنه كما مضى في سياق الإنذار فقال: {وعادًا} أي ودمرنا عادًا بالريح {وثموداْ} بالصيحة {وأصحاب الرس} أي البئر التي هي غير مطوية؛ قال ابن جرير: والرس في كلام العرب كل محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك.
أي دمرناهم بالخسف {وقرونًا بين ذلك} أي الأمر العظيم المذكور، وهو بين كل أمتين من هذه الأمم {كثيرًا} وناهيك بما يقول فيه العلي الكبير: إنه كثير؛ أسند البغوي في تفسير {أمة وسطًا} [البقرة: 143] في البقرة عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد العصر، فما ترك شيئًا إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان قال: أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا، ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عز وجل أخرجه الترمذي في الفتن وأحمد والطبراني وابن ماجه في الفتن أيضًا لكن ببعضه وليس عند واحد منهم اللفظ المقصود من السبعين أمة، وفي بعض ألفاظهم وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء وهذا يدل على أن الذي كان قد بقي من النهار نحو العشر من العشر، وهذا يقتضي إذا اعتبرنا ما مضى لهذه الأمة من الزمان أن يكون الماضي من الدنيا من خلق آدم عليه السلام في يوم الجمعة الذي يلي الستة الأيام التي خلقت فيها السماوات والأرض أكثر من مائة ألف سنة- والله أعلم.
ولما قدم سبحانه أنه يأتي في هذا الكتاب بما هو الحق في جواب أمثالهم، بين أنه فعل بالجميع نحو من هذا، فقال تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتأسية وبيانًا لتشريفه بالعفو عن أمته: {وكلًا} أي من هذه الأمم {ضربنا} بما لنا من العظمة {له الأمثال} حتى وضح له السبيل، وقام- من غير شبهة- الدليل {وكلًا تبرنا تتبيرًا} أي جعلناهم فتاتًا قطعًا بليغة التقطيع، لا يمكن غيرنا أن يصلها ويعيدها إلى ما كانت عليه قبل التفتيت.
ولما ذكر الإهلاك بالماء وبغيره، وكان الإهلاك بالماء تارة بالبحر، وتارة بالإمطار، وختم بالخسف، ذكر الخسف الناشىء عن الأمطار، بحجارة النار، مع الغمر بالماء، دلالة على تمام القدرة، وباهر العظمة، وتذكيرًا بما يرونه كل قليل في سفرهم إلى الأرض المقدسة لمتجرهم، وافتتح القصة باللام المؤذنة بعظيم الاهتمام، مقرونة بحرف التحقيق، إشارة إلى أنهم لعدم الانتفاع بالآيات كالمنكرين للمحسوسات، وغير الأسلوب تنبيهًا على عظيم الشأن وهزًا للسامع فقال: {ولقد أتوا} أي هؤلاء المكذبون من قومك، وقال: {على القرية} وإن كانت مدائن سبعًا أو خمسًا كما قيل- تحقيرًا لشأنها في جنب قدرته سبحانه، وإهانة لمن يريد عذابه، ودلالة على جمع الفاحشة لهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد كما دل عليه التعبير بمادة قرا الدالة على الجمع {التي أمطرت} أي وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة، ولذا قال: {مطر السوء} وهي قرى قوم لوط، ثم خسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله في أنواع الخبث؛ قال البغوي: كانت خمس قرى فأهلك الله أربعًا منها ونجت واحدة وهي أصغرها، وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث.
ولما كانوا يمرون عليها في أسفارهم، وكان من حقهم أن أن يتعظوا بحالهم، فيرجعوا عن ضلالهم، تسبب عن ذلك استحقاقهم للإنكار الشديد في قوله: {أفلم يكونوا} أي بما في جبلاتهم من الأخلاق العالية {يرونها} أي في أسفارهم إلى الشام ليعتبروا بما حل بأهلها من عذاب الله فيتوبوا.
ولما كان التقدير: بل رأوها، أضرب عنه بقوله: {بل} أي لم يكن تكذيبهم بسبب عدم رؤيتها وعدم علمهم بما حل بأهلها، بل بسبب أنهم {كانوا} يكذبون بالقيامة كأنه لهم طبع.
ولما كان عود الإنسان إلى ما كان من صحته محبوبًا له، كان ينبغي لهم لو عقلوا أن يعلقوا رجاءهم بالبعث لأنه لا رجوع إلى الحياة، فهو كرجوع المريض لاسيما المدنف إلى الصحة، فلذلك قال معبرًا بالرجاء تنبيهًا على هذا: {لا يرجون نشورًا} بعد الموت ليخافوا الله عز وجل فيخلصوا له فيجازيهم على ذلك، لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة، واستمروا عليه قرنًا بعد قرن حتى تمكن تمكنًا لا ينفع معه الاعتبار إلا لمن شاء الله. اهـ.